الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وحين يقول الحق: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض}.نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول، فلم يقل: أو لم يهد الذين، بل قال: {يَهْدِ لِلَّذِينَ}، فما الحكمة في ذلك؟. نعرف أن الهداية هي الدلالة على الطريق الموصل للغاية، وقد تعود فائدته عليك، أي أنك قد هَدَيْت غيرك لصالحك. وقد تكون الهداية وهي الدلالة على فعل الخير لأمر يعود على الذي هَدَى وعلى المَهْدِيّ معًا، لكن إذا كانت الهداية لا تعود إلا لك أنت، ولا تعود على مَن هداك، أتشك في هدايته لك؟ لا، إن من حقك أن تشك في الهداية إذا كان هذا الأمر يعود على من هَدَى، أو يعود أمرها على الاثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة، لكن إذا كان الأمر لا يعود على من يَهْدِي ويعود كله لمن يُهْدَي فليس في ذلك أدنى شك.ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي: «يا عبادي لو أنَّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المَخْيط إذا أُدْخِلَ البحر».إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟ لقد خلقكم بصفات الكمال فيه، فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له، وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى المَهْدِيّ. وبذلك يتأكد قوله: {يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض} ما هو مصلحتهم. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول: {لَّوْ نَشَاءُ} ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله: {أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ}، وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط لا، بل هي أيضًا مشيئة العباد الذين ميزهم بالاختيار، وسبحانه يقول: {أَن لَّوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا...} [الرعد: 31].وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعًا؟. لا أحد يمنع الخالق، ولكنه سبحانه خلق خلقًا مهديين بطبيعتهم، لا قدرة لهم على المعصية وهم الملائكة، وجعل سائر أجناس الأرض مسخرة مسبحة، وذلك يثبت صفة القدرة، فلا يستطيع أحد أن يخرج عن مراد الله، ولكن هذا لا يعطي صفة المحبوبية للمشرع الأعلى، ثم إنه سبحانه خلق خلقًا لهم اختيار في أن يطيعوا وأن يعصوا.فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الاختيار في أن يؤمن وأن يكفر، وأن يطيع وأن يعصي، ثم آمن يكون إيمانه دليلا على إثبات صفات المحبوبية للإِله.إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة، والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع الأعلى، ويتابع سبحانه في الآية نفسها: {أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ}. [الأعراف: 100].ونلحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه، بل جعل العقاب بالذنوب التي يختارونها هم، وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للاختيار. وسبق أن تكلمنا في أول سورة البقرة. عن كلمة الطبع؛ وهو الختم: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ...} [البقرة: 7].لأن القلوب وعاء اليقين الإِيماني؛ فحين يملأ إنسان وعاء اليقين الكفر، فهذا يعني أنه عشق الكفر وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده الله على مراده، وكأنه يقول له: أنا سأكون على مرادك، ولذلك أطبع على قلبك فلا يخرج ما فيه من الكفر، ولا يدخل فيه ما خرج منه من الإِيمان الفطري الذي خلق الله الناس عليه. لأنك أنت قد سَبَّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لأن أصول الإِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد، ثم تستقبل الإِيمان بالله، ولكنك تستقبل الكفر وترجحه على الإِيمان.إن الله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه: قلب يؤمن، وقلب لا يؤمن، بل جعل قلبًا واحدًا، والقلب الواحد حيز، والحيز- كما قلنا- لا تداخل للمحيَّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة ونقول: إنها فارغة فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها فقاقيع الهواء، وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لأن الزجاجة ليست فارغة، بل يخيل لنا ذلك؛ لأن الهواء غير مرئي لنا.ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي أن تنكسر. والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الإِيمان بالله لا يسع الكفر، وإن دخل فيه الكفر- والعياذ بالله لا يسع الإِيمان، والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب، ثم يدرس هذه ويدرس تلك، وما يراه مفيدًا لحياته ولآخرته يسمح له بالدخول. أما أن تناقش قضية الإِيمان بيقين قلبي بالكفر فهذه عملية لا تؤدي إلى نتيجة. {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 100].أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الأرض من بعد إهلاك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي والكفر فسار هؤلاء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي السماع المؤدي إلى الاعتبار والاتعاظ فكأنهم لم يسمعوا. اهـ.
وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردَّهُ الزَّمخشريُّ من حيث المعنى، لكن بتقدير: أن يكون {ونَطْبَعُ} بمعنى طَبْعَنا فيكون قد عطف المضارع على المَاضِي لكَوْنِهِ بمعنى المضاي وابن الأنباري جعل التَّأويل في أصَبْنَا الذي هو جواب {لو نَشَاءُ} فجعله بمعنى نُصِيبُ فتأوَّلَ المعطوف عليه وهو الجوابُ، وردَّهُ إلى المستقبل، والزمخشريُّ تأوَّلَ المعطوف وردَّهُ إلى المضي وأنتج ردُّ الزَّمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يصحُّ.قال الزمخشريُّ: فإن قلت: هل يجوزُ أن يكون {وَنَطْبَعُ} بمعنى طَبَعْنَا كما كان {لَوْ نَشَاءُ} بمعنى لَوْ شِئْنَا ويعطف على {أصَبْنَاهُم}؟قلت: لا يساعدُ على المعنى؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مطبوعًا على قلوبهم، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذُّنوب والإصابةِ بها، وهذا التَّفسيرُ يؤدِّي إلى خلوِّهِم من هذه الصِّفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصَفُوا بها.قال أبو حيَّان: وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ، وملخصهُ: أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، سواءً تأوَّلْنَا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب لو لم يقع بَعْدُ، سواءً كانت حرفًا لما كان سيقعُ لوقوع غيره أمْ بمعنى إن الشَّرطية، والإصابة لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقعٌ، فلا يَصِحُّ أن تعطف على الجوابِ.فإن تؤوِّل {ونُطِبعُ} على معنى: ونستمرُّ على الطَّبْعِ على قلوبهم، أمكن التَّعاطف؛ لأنَّ الاستمرار لم يقع بعدُ، وإن كان الطَّبْعُ قد وقع.قال شهابُ الدِّين: فهذا الوجه الأوَّلُ ممتنعٌ لما ذكره الزَّمخشريّ.ونقل ابنُ الخطيبِ عن الزَّمَخْشَري أنَّهُ قال: ولا يجوز أن يكون معطوفًا على {أصَبْنَاهُمْ}؛ لأنَّهُم كانوا كُفَّارًا، إذْ كل كَافِرِ فهو مَطْبُوعٌ على قلبه، فقوله بعد ذلك: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} يَجْرِي مَجْرَى تحصيل الحاصلِ وهو مُحَالٌ.قال ابن الخطيب: وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كونه مطبوعًا عليه في الكفر لم يكن هذا منافيًا لصِحَّةِ العطفِ.الوجه الثاني: أن يكون {نَطْبَعُ} مستأنفًا، ومنقطعًا عمَّا قبله فهو في نيَّةِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ أ: ونحن نَطْبَعُ.وهذا اختيار الزَّجَّاج والزمخشري وجماعة.الثالث: أن يكون معطوفًا على {يَرثُونَ الأرْضَ} قال الزَّمَخْشَرِيُّ.قال أبو حيَّان: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعطوف على الصِّلةِ صلةٌ، و{يَرِثُونَ} صلة لـ {الَّذين}؛ فَيَلْزِمُ الفصلُ بين أبعاض الصِّلة بأجنبي، فإن قوله: {أَن لَّوْ نَشَاءُ} إمَّا فاعل لـ {يَهد} أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديريْنِ فلا تعلق له بشيء من الصِّلة، وهو أجنبيٌّ منها، فلا يفصل به بين أبعاضها، وهذا الوجْهُ مؤدٍّ إلى ذلك فهو خطأ.الرابع: أن يكون معطوفًا على ما دَلَّ عليه معنى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} كأنَّهُ قيل: يغفلون عن الهداية، ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِم قاله الزَّمخشريُّ أيضًا.قال أبو حيَّان: وهو ضعيف؛ لأنَّه إضمار لا يحتاج إليه، إذْ قد صحَّ عطفه على الاستِئْنافِ من باب العطفِ على الجُمَلِ، فهو معطوف على مَجْمُوع المصدَّرة بأداء الاستفهام، وقد قاله الزَّمخْشَرِيُّ وغيره.وقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أتى بالفاء هنا إيذانًا بتعقيب عدم سماعهم على أثَرِ الطَّبْع على قلوبهم. اهـ.
|